زمن صلاح الدين ..
هي تجربته رقم ... لم يعد يذكر ..
لكن الأمر أصبح عنده كالعادة .. إدمان أن يجرب كل يوم شيئاً جديداً وزمناً آخر غير زمنه الذي تهاوت فيه القيم وضاعت العروبة وسقطت القدس ..
اليوم عندما ركب آلته الزمنية كان يعرف أن شيئاً مختلفاً ، شيئاً خاصاً ، سيواكب رحلاته الزمنية هذه .. ستكون رحلة بمذاق خاص ..
انتهت الدوائر الملونة التي تتطاير حوله ، وتوقفت الآلة عن الدوران قبل أن تقذفه بعنف إلى الخارج وهي تعود إلى الدوران حول نفسها بسرعة جنونية ..
أصبح الآن في صحراء جرداء ، لا يرى أمامه أي مدنية أو حضارة ، ولكأن الزمن ألقى به مئات الأعوام إلى الخلف ..
من بعيد لاح له مخيم ، ومن بعيد أيضاً ظهرت سحابة من الغبار خرج منها فارس عربي يركب جواداً أدهماً ويحمل سيفاً تشرق عليه أشعة الشمس وتنعكس بألف لون ..
كالمسحور وقف يترقب الفارس ، مبهوراً ، مأخوذ الأنفاس ... يا له من زمن جميل .. وأي زمن ..
من خلف الفارس ظهر فرسان آخرون ... أحاطوا جميعهم بالزمني وكبلوا أيديه قبل أن يضعوه خلف أحدهم على جواده بينما يتقدمهم قائدهم الفارس الأول بجواده الأدهم ..
ولم ينبس الزمني ببنت شفة وهو يراقب السيوف البراقة والحرملات الحمراء والخوذات الفضية التي تغطي الوجه إلا العينين والفم ..
وفي أعمق أعماقه تمنى رؤيته .. وتمتم بصوت مسموع :
- أريد أن أراه .. يجب أن أحذره مما سيحدث بعده ..
قال الفارس :
- ماذا تقول أيها الدخيل ؟
فقال الزمني :
- أريد أن أرى قائدكم .. يجب أن أحذره من خطر قادم ..
ابتسم الفارس ابتسامة خفيفة تلاشت بسرعة ، ثم انطلق مسرعاً أكثر بجواده والمخيم يبدو لهم واضحاً .. الرايات الخضراء ترتفع عالية مدوية في كل مكان ، والجنود ينتشرون يتدربون وينظمون الصفوف ..
لكن شيئاً بدا من خلف المخيم من بعيد ، جعل الزمني في حالة من الذهول المطبق .. حالة من العجز حتى أن قلبه كاد أن يتوقف عن الخفقان ..
هذه المئذنة .. هذه الأسوار ... هذه الطرق التي تبدو من بعيد ...
إنها القدس ... انه المسجد الأقصى على بعد حجر ... إنهم على أبواب القدس ..
ولم يعد الزمني يتمالك نفسه ... صرخ بكل قوته ..
- أريد أن أراه .. أريد مقابلة قائدكم ..
أنزله الفرسان بسرعة ، وضعوه في خيمة وفكوا وثاقه ، قدموا له الشراب والطعام ، ثم أجلسوه ليستريح ..
ساعات مضت .. ساعات من الانتظار الطويل ..
ثم جاء ..
فارس طويل ، له هيبة عظيمة .. لحيته البيضاء تضفي عليه وقاراً وحكمة ، وعينيه يشع منهما حزم يتجاوز كل وصف ..
اعتدل الجنود في صفين أمامه يؤدون التحية العسكرية حتى دلف إلى خيمة الزمني ..
- قف أيها الغريب فأنت في حضرة القائد العام ..
وقف الزمني مبهوراً ، يتأمل ملامح القائد وتمتم دون أن يدري :
- الناصر صلاح الدين ..
ابتسم القائد وقد سمعه ..
- من ؟ الناصر صلاح الدين ..
رحمه الله يا بني .. ليته كان معنا ليشهد هذا اليوم العظيم ..
انتفض جسد الزمني ، وقال متوتراً ..
- وهل قتل الناصر صلاح الدين ..؟ ما الذي حدث ؟ نحن نعلم جيداً أنه سيدخل القدس بعد معركة فاصلة ، ولقد جئت أحذره من خطر سيأتي بعده .. ستضيع القدس يا سادة ، ستسقط مرة أخرى في يد الصليبيين واليهود .. ستضيع جهودكم للأسف ..
قالها وسقط أرضاً وهو لا يقوى على الوقوف ، لكن القائد مد له يده ، قائلاً بصوت صارم :
- قف أيها الرجل وتمالك نفسك ، فقد انتهى عصر صلاح الدين منذ أبد بعيد ، وما نحن إلا جيش آخر من جيوش المسلمين . .. ولن تضيع القدس مرة أخرى .. أتفهم .. لن تضيع القدس مرة أخرى ..
وهنا .. تنبه الزمني إلى أشياء لم ينتبه لها منذ أول مرة ..
هؤلاء الفرسان يرتدون الساعات اليدوية ، ويعلقون ساعة كبيرة في وسط الخيمة ... الأحذية مصنوعة من الجلد المتقن البراق ، والملابس مطرزة بأحدث الوسائل ..
ما الذي يحدث بالضبط ؟
وهنا سأل الزمني سؤاله الذي ينتظر جوابه بفارغ الصبر ..
- في أي عام نحن يا سيدي ..
وعندما سمع الجواب صرخ بصوت متحشرج ..
- أرجوك يا الهي .. لا أريد أن أستيقظ ... أبقني في هذا الزمن الجميل ..